مقدمة: لماذا داهيا مهمة؟

في عصر تغيرت فيه خرائط العالم القديم بسرعة، واشتدت فيه نزاعات الإمبراطوريات على حدود جديدة، ظهرت في شمال إفريقيا شخصية استثنائية: داهيا بنت تيفان، التي عرفها المؤرخون العرب بلقب «الكاهنة» وفي الذاكرة الشعبية باسم «ديهيا». كانت داهيا زعيمة أمازيغية قادت تحالفات قبلية واسعة، وأعلنت مقاومة مسلحة ضد تقدم الجيش الأموي، فكتب التاريخ عنها صفحات من الشجاعة والتضحية والسياسة.

الخلفية التاريخية: المغرب قبل داهيا

قبل ظهور داهيا، كان شمال إفريقيا مسرحًا لتفاعل ثلاث قوى رئيسية:

• النفوذ البيزنطي على السواحل الحضرية وفي الموانئ الكبرى، لكنه كان مستنزفًا ومنهكًا أمام التحولات الإقليمية.
• القبائل الأمازيغية التي حكمت الداخل وكانت موزعة على ممالك وقبائل متفرقة (زناتة، كتامة، جراوة، هوارة ...)
• التوسع العربي الإسلامي بعد فتح مصر، الذي اتجه غربًا نحو إفريقية وقرطاج بحثًا عن السيطرة السياسية والدينية.

في هذه البيئة المتشابكة ظهر قادة محليون، منهم كسيلة الذي سبق داهيا، وفي فراغ قيادي بعده تم اختيار داهيا لقيادة تحالف واسع يواجه التمدد الخارجي.

نشأة داهيا وارتقاؤها إلى السلطة

ولدت داهيا في منطقة الأوراس (المرتفعات التي تغطي أجزاء من الجزائر اليوم) نحو منتصف القرن السابع الميلادي. انتمت إلى قبيلة جراوة، إحدى فروع زناتة. وصفتها المصادر بأنها بارزة الهيئة، ذات كاريزما قيادية، وذكاء سياسي جعَلَ القبائل تختارها في وقت الحاجة إلى قائد موحِّد.

اعتماد لقب "الكاهنة" على داهيا، كما يرى عدد من الباحثين، لا يعني بالضرورة انخراطًا في السحر بل هو ترجمة لمكانتها الروحية والاجتماعية بين القبائل—قد تكون قدراتها في التنبؤ السياسي أو بروزها كرأس سياسي غطته الرواية الشعبية بلقب مظلل بالرمزية.

تحالفات داهيا وبناء الدولة القبلية

بعد فراغ القوة الذي تركه موت كسيلة، نجحت داهيا في توحيد مجموعة واسعة من القبائل عبر تحالفات سياسية وعسكرية. امتد نفوذها من جبال الأوراس إلى سهول تونس الشرقية وحدود ما كان يُعرف بإفريقية الرومانية سابقًا.

بنيت سلطتها على ثلاث ركائز رئيسية:

1. الشرعية القبلية والقبض على شبكات الولاءات.
2. قوة عسكرية مبنية على مقاتلين محليين خبراء في حرب المكان.
3. سياسة خارجية ثابتة: مقاومة التمدد الأجنبي (العربي والبيزنطي) بالتنسيق مع قادة محليين.

المعارك الكبرى: سجل المواجهات مع الأمويين

المواجهة الأولى — تصدي لحسان بن النعمان (المعركة التمهيدية)

عندما وصل القائد الأموي حسان بن النعمان الغسّاني إلى حدود المغرب بعد سقوط قرطاج، اصطدم بقوة تنظيمية موحَّدة حول داهيا. تصف المصادر العربية أن جيش حسان تعرَّض لهزيمة مفاجئة؛ وذكرت أن الهزيمة كانت "لم تُرَ مثلها" في تلك المرحلة. هذه الهزيمة أجبرت القائد الأموي على التراجع مؤقتًا إلى إعادة التجهيز في برقة.

مرحلة النصر المؤقت — حكم داهيا الذهبي

بعد تراجع الأمويين، استغلت داهيا الفرصة لتعزيز تحالفاتها وترتيب شؤون حكمها. تروي الروايات أنها حكمت لسنوات قلائل (تقديرات بين 5–7 سنوات) وضمنت نفوذًا واسعًا في المغرب الأوسط والشرقي، بينما كانت تستعد لاحتمال عودة الحملات الأمويّة بضراوة أكبر.

حرب الاستنزاف وسياستها: الأرض المحروقة

كخطة دفاعية تكتيكية، اتبعت داهيا سياسة أشد قساوة أحيانًا: الأرض المحروقة — حيث أمرت بإحراق المحاصيل والمزارع والمنشآت التي قد يستفيد منها الجيش الغزاة لاحقًا. القرار هذا كان ذو أثر مزدوج: أبطأ تقدم العدو لكنه أثّر سلبًا على سكان المناطق نفسها وفَتَحَ الباب أمام نفور بعض الحلفاء.

المعركة الحاسمة — ارتداد الأمويين وانتصارهم النهائي

بعد إعادة تنظيم الجيش وإدخال قوات جديدة وتزويده بالعدة، عاد حسان مسلحًا بإمكانيات أفضل. جرت المعارك النهائية في سهول وأطراف الأوراس وما حول تبسة والمسيلة (تباينت الروايات حول مكان المواجهة بالتحديد).

في هذه المعارك الأخيرة انحسر موقف داهيا أمام التفوق العددي والتكتيكي للأمويين، وسجلت المصادر نهاية قيادتها—قُتلت أو استُشهدت حسب الروايات الشعبية. وبهذا انتهى فصل المقاومة الكبرى لمملكة داهيا.

تحليل تكتيكي عسكري: لماذا هزمت داهيا؟

يمكن اختصار الأسباب التي أدت إلى تراجع داهيا وهزيمتها النهائية في النقاط التالية:

• التفوق العددي والتسليحي للقوات الأموية بعد إعادة التجهيز.
• فوضى الموارد الناجمة عن سياسة الأرض المحروقة التي أضعفت الأساس الاقتصادي للحلفاء.
• انقسام داخلي في ولاءات بعض القبائل التي لم تحتمل التكلفة الاجتماعية للحرب الطويلة.
• التنسيق المركزي لدى القائد الأموي وقدرته على تعبئة قوات من مناطق مختلفة.

بعد داهيا: انعكاسات تاريخية وسياسية

رغم سقوط حكمها، فإن أثر داهيا ظل عميقًا:

1. بذرت فكرة الوحدة السياسية في شمال إفريقيا، وكانت تجربة سابقة لتشكّل دول لاحقة.
2. صارت رمزًا ثقافيًا للمقاومة والهوية الأمازيغية، ولا تزال تُستدعى في الأدب والمسرح والرواية.
3. أثّرت سياساتها (مثل الأرض المحروقة) في استراتيجيات الحرب المحلية لقرون قادمة.
4. تحوّل بعض أبنائها وحلفاؤها لاحقًا إلى عناصر في البنية الإدارية والعسكرية للدول الجديدة؛ ما يدل على إدماج جزئي بدلًا من إقصاء كامل.

مصادر وروايات متباينة — كيف نقرأ التاريخ؟

سيرة داهيا مختلطة بين التاريخ والملحمة الشعبية. لدينا:

• مصادر عربية كلاسيكية رُويت بعد قرون عن الحدث.
• مرويات محلية أمازيغية تناقلتها الشفاهية عبر الأجيال.
• ملاحظات للمستشرقين الأوروبيين في القرنين الـ19 والـ20.

لذلك يجب التعامل مع الرواية التاريخية بحذر: التمييز بين النواة التاريخية (وجود زعيمة أمازيغية قادت مقاومة) وبين الطبقات الأسطورية والرمزية التي أضافتها الذاكرة الشعبية.

جدول زمني مختصر للأحداث

الخلاصة: داهيا بين الأسطورة والتاريخ

الملكة داهيا ليست مجرد اسم في كتب الماضي؛ إنها شخصية محورية تبيّن كيف استطاعت قيادة محلية أن تواجه موجة تغيير كبرى. سواء وصفناها كبطلة قومية، أو حاكمة قاسية، أو رمزًا للمقاومة، يبقى أنها كتبت فصلًا لا يُمحى في ذاكرة المغرب العربي.